الكرسي الرسولي والشرق
على مدى السنوات القليلة الماضية، كان هناك قلقٌ متزايدٌ من المجتمع الدوليّ، والعديد من المسيحيّين في الغرب، حول مصير المسيحيّة في الشرق الأوسط. نشأ هذا القلق -لسوء الحظ- بسبب الفظائع التي أَجبرت مئات الآلاف من المسيحيّين والأقليّات الأخرى على ترك منازلهم والفرار بحياتهم، بحثًا عن ملجإٍ في ظروفٍ محفوفةٍ بالمخاطر، بالإضافة إلى الكثير من المعاناة الجسديّة والمعنويّة. لقد قُتِلَ وخُطِفَ الكثيرون بسبب عقيدتهم الدينيّة. إنّ ما هو على المحك هو المبادئ الأساسيّة مثل: الحقّ في الحياة، والكرامة الإنسانيّة، والحريّة الدينيّة، والتعايش السلميّ، والوئام بين الأشخاص والشعوب. نحن ندرك جيّدًا أنّ المسيحيّين ليسوا وحدهم الذين يعانون من الاضطهاد في العالم. هناك العديد من المجتمعات الدينيّة، بما في ذلك مجموعات الأقليّات التي تتعرّض للاضطهاد أو القمع التي قد تكون مدعومةً من الدولة أو مجتمعيّةً بطبيعتها. ومع ذلك، هناك تركيزٌ على اضطهاد المسيحيّين؛ لأنّه يبدو أنّه في ازدياد، حيث أشار عددٌ من الدراسات إلى أنّ المسيحيّين هم ضحايا ٨٠٪ من جميع أعمال التمييز الدينيّ في العالم
ومع ذلك، ونظرًا للتهديد الوجوديّ لاستمرار بقائهم على قيد الحياة، نودّ هنا أن نركّز على وضع المسيحيّين والأقليّات العرقيّة الدينيّة الأخرى في الشرق الأوسط. إنّ حقيقة أنّ العديد من الدول والهيئات الدوليّة قد أصدرت قراراتٍ تصف تهديدات ما يسمّى بتنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) الموجَّهة ضدّ المسيحيّين والأقليّات العرقيّة الأخرى بأنّها إبادةٌ جماعيّةٌ تعطي الأولويّة لاهتمامنا بالشرق الأوسط، لا سيّما في سوريا والعراق، ولكن ليس فقط. في مصر، أكّدت الهجمات الإرهابيّة المتكرِّرة التي نفّذها مقاتلو داعش العائدين على المسيحيّين على الامتداد العالميّ وظاهرة داعش. مثل هذه الأحداث هي مؤشِّرٌ مقلقٌ على أنّ استعادة المدن الرئيسة تحت سيطرة داعش: الرقّة في سوريا، والموصل في العراق، لن تقضي على الإرهاب، بل سيحلّ محلّه بمجرّد عودة مقاتلي الدولة الإسلاميّة إلى بلدانهم الأصليّة في أوروبا، وآسيا، وأفريقيا، وأماكنَ أخرى. في الواقع، هذا هو أحد التحدّيات التي تواجه المجتمع الدوليّ بالفعل، لا سيّما في ضوء الإرهاب في أوروبا، وأماكنَ أخرى، في السنوات القليلة الماضية.
بالتركيز على منطقة الشرق الأوسط، أبدأ بالتأكيد على أنّ جهود الكرسي الرسولي في تلك المنطقة تسترشد بمبدأ الدفاع عن حقوق الإنسان لجميع الناس، بغضّ النظر عن العرق، أو الدين، أو الهُويّة العرقيّة. في حين أنّ الاهتمام والتقارب الخاصَّين بالمسيحيّين أمرٌ مفهومٌ تمامًا، وفي الواقع، ضروريّان للتضامن الروحيّ، لا ينبغي أن يُعمينا عن القلق بشأن معاناة واضطهاد الجماعات الأخرى. تشكِّل التهديدات التي تتعرّض لها مجموعةٌ أو أخرى تهديدًا لجميع الأقليّات العرقيّة والدينيّة.
لقرونٍ، عاش المسيحيّون جنبًا إلى جنبٍ مع مختلف الجماعات العرقيّة والدينيّة المتنوّعة في الشرق الأوسط. شكّل هذا التنوّع سمةً مميّزةً للنسيج الاجتماعيّ للمنطقة -فسيفساء من شعوبٍ ودياناتٍ مختلفة- حتّى لو كانت هناك أحيانًا حلقاتٌ متفرّقةٌ من الصراع والتوتّرات بينها. ومع ذلك، فإنّ ما رأيناه في السنوات الأخيرة، يُهدِّد بقاء الشرق الأوسط مكانًا للتعايش السلميّ بين الشعوب ذات الهُويّات الدينيّة والعرقيّة المتنوّعة. لا تسعى الأيديولوجيّة التي أطلقها ما يسمّى بالدولة الإسلاميّة إلى تغيير حدود الشرق الأوسط فحسب، بل تسعى أيضًا إلى تغيير طبيعته من خلال القضاء على المسيحيّين والأقليّات الأخرى الذين يشكّلون جزءًا جوهريًّا من هُويّته. في الواقع، كما كتب البابا الفخريّ بندكتس السادس عشر في الإرشاد الرسوليّ لِما بعد السينودس، «الكنيسة في الشرق الأوسط»، أنّ «الشرق الأوسط بدون مسيحيّين، أو عددٍ قليلٍ من المسيحيّين، لن يكون الشرق الأوسط؛ لأنّ المسيحيّين، جنبًا إلى جنبٍ مع المؤمنين الآخرين، هم جزءٌ من الهُويّة المميّزة للمنطقة». في الواقع، اعترف البابا بندكتس السادس عشر بأنّ الهُويّة المميّزة للمنطقة تتشكّل من المسيحيّين مع مؤمنين آخرين، وبالتالي الاعتراف بأنّ التعدّديّة الدينيّة ليست شيئًا يتمّ استيراده، أو فرضه من الخارج، ولكنّها حقيقةٌ لها وجودٌ بالفعل منذ آلاف السنين، وهي متأصّلةٌ في هُويّة المنطقة. هذه هي الحقيقة، حقيقة الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإنّ الفظائع التي ارتُكِبَت في السنوات القليلة الماضيّة تؤكّد على أنّ البطولة والشجاعة يتطلّبان الشهادة على هذه الحقيقة.
كان وضع المسيحيّين في الشرق الأوسط متّسمًا باليأس بشكلٍ خاص منذ إعلان خلافة الدولة الإسلاميّة في الموصل عام ٢٠١٤. في رسالته إلى الأمين العام للأمم المتّحدة في آب عام ٢٠١٤، دعا البابا فرنسيس المجتمع الدوليّ لمساعدة المسيحيّين وغيرهم ممّن فرّوا من همجيّة داعش على العودة بأمانٍ إلى مدنهم ومنازلهم. من ناحية، يكتب الأب الأقدس كقائدٍ دينيٍّ للجماعات المسيحيّة في الشرق الأوسط، في حين أنّه، من ناحيةٍ أخرى، يستخدم الرسالة أيضًا لتوجيه نداءٍ إلى المجتمع الدوليّ لتلبيّة احتياجات المسيحيّين والأقليّات الأخرى التي تعاني، قبل كلّ شيء، من خلال تعزيز السلام عن طريق المفاوضات والدبلوماسيّة. على الرغم من أنّ فقرةً واحدةً فقط من الرسالة موجَّهةٌ صراحةً إلى المجتمع الدوليّ، إلّا أنّ الفقرات الأخرى من الرسالة تعكس المبادئ في صميم دبلوماسيّة الكرسي الرسولي في الدفاع عن المسيحيّين والأقليّات الدينيّة الأخرى في الشرق الأوسط، من خلال التأكيد على أنّهم أعضاءٌ أساسيّون في تلك المجتمعات التي لها الحقّ وعليها الواجب في المساهمة في الصالح العام.
وهكذا، فإنّ الأب الأقدس يذكّر المسيحيّين بدعوتهم الفريدة والمحدَّدة ليكونوا خميرةً في عجينة المجتمعات والجماعات التي ينتمون إليها: «إنّ وجودكم في الشرق الأوسط ثمينٌ للغاية. أنتم قطيعٌ صغير، لكن لديكم مسؤوليّةٌ كبيرةٌ في الأرض التي وُلِدَت فيها المسيحيّة وانتشرت لأوّل مرّة. أنتم مثل الخميرة في العجين. حتّى أكثر من الإسهامات العديدة التي تقدّمها الكنيسة في مجالات التعليم، والرعاية الصحيّة، والخدمات الاجتماعيّة، التي يحظى بتقدير الجميع، فإنّ أكبر مصدرٍ للإثراء في المنطقة هو وجود المسيحيّين أنفسهم». وصف الأب الأقدس في رسالته الدور والدعوة الفريدَين للمسيحيّين في الشرق الأوسط: «أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أنتم جميعًا مواطنون أصليّون في بلدانكم، ومن ثَمّ فإنّ عليكم واجبُ وحقّ المشاركة الكاملة في حياة أممكم وتقدّمها. إنّكم مدعوّون في المنطقة لأن تكونوا صانعي السلام، والمصالحة، والتنميّة، وأن تعزِّزوا الحوار، وأن تبنوا الجسور بروح التطويبات (راجع متّى ٣:٥، ١٢)، وأن تعلنوا إنجيل السلام، بروحٍ من التعاون مع جميع السلطات الوطنيّة والدوليّة».
على الرغم من أنّ الرسالة كانت موجَّهةً إلى المسيحيّين، إلّا أن الأب الأقدس لم يصمت عن معاناة الجماعات الدينيّة والعرقيّة الأخرى: «ولا يمكنني، في الكتابة إليكم، أن أبقى صامتًا بشأن أعضاء الديانات والجماعات العرقيّة الأخرى الذين يعانون أيضًا من الاضطهاد وآثار هذه النزاعات». يوضح هذا تمامًا الشخصيّة الفريدة للأب الأقدس وصوته في المنتدى الدوليّ بصفته الراعي والدبلوماسيّ الأعلى للكنيسة بامتياز.
الممثِّل الدبلوماسيّ الرئيس للكرسي الرسولي هو الأب الأقدس. يتّجه العالم إلى الأب الأقدس، وكلامه وأفعاله هي التي تُلهِم النشاط الدبلوماسيّ للكرسي الرسولي وتُفعِّله. فهو يمتلك وسائلَ مختلفةً تحت تصرّفه لممارسة دوره الدبلوماسيّ الفريد في العالم. إنّه فريدٌ من نوعه، لأنّ الأب الاقدس لا يتحدّث كقائدٍ عالميٍّ فقط، بل كقائدٍ دينيٍّ في المقام الأوّل. إنّ رحلات الأب الأقدس الدوليّة إلى الخارج هي أيضًا لحظاتٌ مميّزةٌ للنشاط الدبلوماسيّ للكرسي الرسولي لأنّها تسمح للبابا بالتحدّث إلى عالم السياسة وقادة المجتمع المدنيّ، وهو ما ظهر بشكلٍ خاص خلال زيارته الأخيرة لمصر.