التغيير الثوريّ
كان أحد الإنجازات الأساسيّة للمجمع الفاتيكانيّ الثاني هو التغيير الثوريّ في صورة الكنيسة الذاتيّة، الذي يهدف إلى إدخال إعادة توجيهٍ جذريّةٍ لأنشطتها. في الفصلين الأوّلين من دستوره العقائديّ حول الكنيسة، تجاهل المجمع الفاتيكانيّ الثاني ببساطةٍ النهج القانونيّ، رافضًا تعريف المؤسّسة بخلاف ما ورد
كلمات العهد الجديد، حيث يُشار إليها على أنّها سرّ، ومجيء ملكوت الله، وشعب الله.ه
يصف الفصل الثالث من هذه الوثيقة الترتيب الهرميّ لحكم الكنيسة، مكرِّرًا إعلان سيادة البابا على حكم الكنيسة وعصمته من الخطأ في تحديد مسائل الإيمان والأخلاق كما أعلنها المجمع الفاتيكانيّ الأوّل عام ١٨٧٠. لكنّها تُعدِّل مفهوم الحكم البابويّ من خلال ربط الأساقفة بالبابا وتحت حكمه كمشاركين في حكم الكنيسة الجامعة. تقديرًا لهذا التعديل، افتتح البابا بولس السادس سلسلةً من مجامع الأساقفة، حيث يلتقي ممثِّلون منتخبون من جميع أنحاء العالم مع البابا وموظَّفيه لمناقشة سياسات الكنيسة. عُقِدَت المجامع في الأعوام ١٩٦٧ و١٩٦٩ و١٩٧١، وأُنشئت في روما أمانةٌ دائمةٌ بعضويّةٍ متجدِّدةٍ للإشراف على تنفيذ السينودس السابق وإعداد جدول أعمال السينودس القادم. على الرغم من أنّ النقّاد اعتبروا حتّى الآن أنّه مجمعٌ مطّاطيٌّ إلى حدٍّ ما، فإنّه يُقدِّم وعدًا بتطوير آليّةٍ يتمّ من خلالها تقاسم صنع السياسة العامّة للكنيسة بشكلٍ كاملٍ تدريجيًّا بين البابا والأساقفة الذين يُديرون الأبرشيّات، بدلًا من أن يكونوا خاضعين تحت سيطرة المكاتب الإداريّة للكوريا الرومانيّة.ة
كان الكاردينال ليو جوزيف سوينز[1] رأس حربةٍ في المناقشة من أجل عمليّةٍ أكثر تمثيليّةً للانتخاب البابويّ، الذي كان جنبًا إلى جنبٍ مع البابا بولس السادس (الكاردينال مونتيني)، مهندس رؤية يوحنّا الثالث والعشرين فيما يخصّ أهداف المجمع وإجراءاته. ومع ذلك، فإنّ الأسقفين اختلفا علنًا حول البُنية الحاليّة للكنيسة. ففي مقابلةٍ شهيرةٍ مع الصحافة في أيّار عام ١٩٦٩، دعا الكاردينال سوينز إلى إعادة تنظيم طريقة الانتخابات البابويّة، مشيرًا إلى أنّ المسؤوليّة عن خير الكنيسة الشامل، عند مشاركتها مع الأساقفة، يمكن التعبير عنه بشكلٍ أفضل إذا تمّ اختيار الناخبين البابويِّين من المجامع الأسقفيّة. في الوقت نفسه، دعا سوينز إلى إعادة ترتيبٍ كاملةٍ لفكرة النشاط الدبلوماسيّ البابويّ، منتقدًا السفراء والقاصدين الرسوليِّين لمحاولتهم ممارسة تأثيرٍ لا داعي له في البلدان التي تمّ اعتمادهم فيها.ا
رُفِضَت فرضيّة سوينز من قبل كلٍّ من البابا والكوريا الرومانيّة وبُذِلَت محاولةٌ، في وثيقةٍ تتناول الإجراءات الدبلوماسيّة البابويّة، لتبرير وجود هؤلاء الممثِّلين للفاتيكان على أنّه نشاطٌ رعويٌّ بطريقةٍ ما. لم يقبل معظم الخبراء التحرُّك لإعطاء هذه الوظائف الدبلوماسيّة الكنسيّة أساسًا لاهوتيًّا؛ ومع ذلك، فإنّ التبادلات الدبلوماسيّة البابويّة مع الدول ذات السيادة آخذةٌ فعلًا في التوسُّع، إذ تسعى معظم الدول الجديدة، عند حصولها على الاستقلال، إلى نيل اعتراف الكرسي الرسولي. بطريقةٍ مماثلة، لا يزال السفير البابويّ يُثبت في تنظيم موقف الكنيسة في البلدان ذات الأنظمة الصعبة أو القمعيّة أنّه الأداة الأكثر أهميّة: بصفته دبلوماسيًّا معتَمَدًا، فإنّه يتمتّع بإمكانيّة الوصول المباشر إلى رؤساء الحكومات.ت
إنّ موقف الكنيسة من المشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة والسياسيّة لعالم اليوم مبرَّرٌ في تأكيد الباباوات على أنّ الكنيسة ليست مرتبطةً بأيّ ثقافةٍ واحدة، لأنّها مستعدّةٌ للدخول في علاقاتٍ مع كلّ الثقافات. على الرغم من تكرار هذا المبدأ بشكلٍ متكرِّر، إلّا أنّ هناك القليل من الفهم لأهميّته الكاملة بين معظم رجال الدين والعلمانيّين الملتزمين. على الرغم من أنّ المجمع الفاتيكانيّ الثاني قد برَّر فكرة التعدُّديّة في تفسير تعاليم الكنيسة ونظامها، إلّا أنّ التغيير في هذين المجالين لا يزال يصدم غالبيّة أصحاب الرتب الكنسيّة الرفيعة والمؤمنين. حتّى الآن، لم يقم أيّ ناقدٍ كنسيٍّ بمحاولة وضع نظريّةٍ تتعلّق بالتطوّر الذي ينطوي عليه تغييرٌ كبيرٌ في السياسة التي فُرِضَت على الكنيسة بسبب ظروف العصر الجديد وضغوطه.ه
بشكلٍ عام، مواجهة مشاكلَ اجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ وأخلاقيّةٍ وسياسيّةٍ جديدةٍ أو متطوّرة، يميل البابا والأساقفة، بصفتهم السلطة التعليميّة للكنيسة، إلى تبنِّي موقفٍ محافظٍ يقوم على إعادة تأكيد القيم التقليديّة والقرارات التأديبيّة. ومع ذلك، على الرغم من الاستمراريّة المزعومة لتعاليمها، فإنّ البابا بولس السادس مغرمٌ بالتأكيد على أنّ الكنيسة منسجمةٌ مع نفسها، إذ غيَّرت، في كثيرٍ من الأحيان، تفسيرها وكذلك موقفها في معظم مجالات اهتماماتها اللاهوتيّة والتأديبيّة. عندما، بسبب تفكير لاهوتيِّيها، أو موقف مؤمنيها، الذين يواجهون أنماطًا ميتافيزيقيّةً أو سياسيّةً أو اجتماعيّةً أو فلسفيّةً متنوّعة، فإنّ الكنيسة تكون على وشك قبول تغييرٍ في التفسير العقائديّ أو التوجيه التأديبيّ. فمع نشر وثيقةٍ بابويّةٍ أو أسقفيّةٍ تُعبِّر عن رفض التزحزح عن هذه القضيّة، يتمّ الإقرار عن غير قصدٍ بحقيقة أنّ التحوُّل قد بدأ بالفعل. يمكن ملاحظة هذه الآليّة بشكلٍ خاص في النظام السياسيّ؛ لكن لا ينبغي استبعادها في المجالين العقائديّ والتأديبيّ، خصوصًا عندما تتقاطع هذه التعاليم مع المواقف السياسيّة.ة
اعترف المجمع الفاتيكانيّ الثاني، في دستوره الراعويّ «في الكنيسة في عالم اليوم»، بعددٍ كبيرٍ من هذه التغييرات في النظام السياسيّ. لقد دعا، أوّلًا وقبل كلّ شيء، إلى إعادة توجيهٍ كاملةٍ لموقف الكنيسة في مواجهة التحوّلات الهائلة التي أحدثتها الثورات العلميّة والطبيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، التي خلقت العالم المعاصر في مظاهره الرأسماليّة والشيوعيّة والاشتراكيّة والمتخلِّفة. تناولت هذه الوثيقة انخراط الكنيسة في السياسة، وأكّدت ما يلي: «إنّه لمن المناسب تمامًا لطبيعة الإنسان، أن تقوم أنظمةٌ سياسيّةٌ – قضائيّةٌ تُمكِّن المواطنين جميعهم، دومًا وبطريقةٍ فعّالةٍ ودونما تمييز، من الاشتراك، بنشاطٍ وحريّة، في إرساء الأسس القانونيّة للجماعة السياسيّة وفي إدارة المصالح العامّة، وتحديد حقول العمل، وأهداف الأجهزة المختلفة واختيار الحكّام» (البند ٧٥)
تتعارض هذه الجملة مع عدم الثقة في الديموقراطيّة التي وجدت استحسانًا في العديد من مجالات الفكر الكاثوليكيّ طوال القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين، التي لا تستبعد التعليم البابويّ. وتماشيًا مع التحوُّل الإيديولوجيّ، قال المجمع: «يجب على المسيحيّين أن يدركوا أنّه يمكن تبنِّي وجهات نظرٍ مختلفة، وإنْ كانت متضاربة، فيما يتعلّق بتنظيم الشؤون الزمنيّة […] يجب عليهم احترام مواطنيهم عندما يروِّجون لمثل هذه الآراء بشرفٍ حتّى من خلال العمل الجماعيّ». هذا بالطبع بعيدٌ كلّ البعد عن القول المأثور عن المكتب المقدّس القديم أنّ «الخطأ ليس له حقوق». إنّ النهج الجديد هو نتيجةٌ مباشرةٌ لتعليم البابا يوحنّا الثالث والعشرين، «سلامٌ في الأرض»، حيث قال هذا الأخير دون أدنى انحناءٍ للسياسات العكسيّة السابقة: «يجب ألّا يخلط الإنسان بين الخطأ والشخص الذي يُخطئ، حتّى عندما يكون هناك سؤالٌ عن الخطأ أو نقص المعرفة في المجال الأخلاقيّ أو الدينيّ. الشخص الذي يُخطئ دائمًا […] يحافظ على كرامته كشخصٍ بشريّ.يّ»
عند الاقتراب من المشكلة الجوهريّة للعلاقات بين الكنيسة والدولة، أكَّد المجمع أنّه لا ينبغي بأي حالٍ من الأحوال الخلط بين الكنيسة والمجتمع السياسيّ أو الالتزام بأيّ نظامٍ سياسيّ. دعا المجمع إلى الاحترام الأساسيّ والتعاون بين الكيانين اللذين يتعاملان مع الدعوات الاجتماعيّة والشخصيّة لنفس البشر، وأعلن أنّ المَهمّة الأساسيّة للكنيسة في النظام السياسيّ هي المساهمة في التطبيق الأوسع للعدالة والمحبّة داخل وبين الأمم. معترفًا بأنّ الكنيسة تنخرط في الأنشطة العلمانيّة بالقدر الذي تتطلّبه رسالتها الخاصّة، أكّد المجمع أنّها لا تُعلِّق أملها على الامتيازات التي تمنحها السلطة المدنيّة. إنّها، في الواقع، على استعدادٍ للتخلِّي عن ممارسة بعض الحقوق المكتسبة بصورةٍ مشروعةٍ إذا اتّضح أنّ استخدامها يثير الشكوك حول صدق شهادتها أو أنّ ظروف الحياة الجديدة تتطلّب ترتيباتٍ أخرى. بهذه الجملة، أظهر المجمع نفسه على استعدادٍ لمحو أكثر من ألف عامٍ من التاريخ الذي طالبت فيه الكنيسة بامتياز المعاملة القائمة على «الحقّ الإلهيّ»[2]
-
الثيوقراطيّة: كلمةٌ تتكوّن من كلمتين، «ثيو» وتعني «إله»، و«قراط» وتعني «حكم»، بمعنى «حكم الله». إنّها نمط حكمٍ تدّعي فيه السلطة القائمة أنّها تستمدّ شرعيّتها من الله، ويدّعي الحاكم أنّه يحكم باسم الله، وبالتالي يُلغى إشكال الشرعيّة السياسيّة بحجّة الاستجابة للإرادة الإلهيّة، ويكون الناس مُجبَرين على الطاعة العمياء لهذه السلطة من منطلق الحقّ الإلهيّ