إنّ لاهوتَ السيِّدةِ العذراءِ في الليتورجيَّةِ البيزنطيَّة، لهو لاهوتٌ يُعَبِّرُ بطريقةٍ ساميةٍ وبليغةٍ عن عَظَمَةِ مَن نَقِفُ خاشِعينَ ومُنذهِلينَ في حَضرَتِها. فالليتورجيَّةُ ليستْ حِجارةً صَمَّاءَ وعمياءَ، إنها حياةٌ تَفيضُ من يَنابيعِ مَن تأمَّلَ وصَلَّى الكتابَ المقدَّسَ بكلِّ عُمقٍ، وغاصَ في رِحابِهِ، ناهِلاً منه ما يجولُ في قلبِهِ من خواطِرَ ومشاعِرَ روحيَّةٍ عميقةٍ تجاهَ مَن وَلَدَتْ لنا الحياةَ ذاتَها.
“لِنُكَرِّمْ تلكَ الَّتي، بلا زَرعٍ وبطريقةٍ مُعجِزة، وَلَدَتْ مِن شُعاعٍ إلهيٍّ، المسيحَ اللؤلؤةَ الثمينة” (النشيدُ الأوَّلُ في قانون صلاة السَّحَر، التي تقامُ إكراماً للسيِّدةِ العذراء، في عيدِ سيِّدةِ فلاديمير).
فمنذ الأجيالِ الآولى للمسيحيَّةِ، والكنيسةِ – المُقامةِ على صخرةِ السيِّدِ المسيحِ له المجد، ودمِ الشهداءِ القدِّيسينَ الذينَ جاهدوا الجِهادَ الحَسَن، حينَ قدَّموا ذواتِهم قربانةً حيَّةً تؤكَلُ في سبيلِ الدفاعِ عن إيمان الكنيسةِ – تكرِّمُ العذراءَ مريم، مُعتَبِرةً إيَّاها المِثالَ الحياتيَّ الأعلى، لشعبِ اللهِ في مسيرتِهِ نحو حَجِّهِ الأبديّ (الرحلة المقدَّسة)، وعلامةٍ أكيدةٍ للخلاصِ والتَّعزية، مما جَعَلَ الجماعاتِ المسيحيَّةَ كلَّها على مختلفِ انتماءاتِها، إلى التعلُّقِ بأُمِّ المسيحِ الإلهِ والإنسان، فراحُوا يُعلُونَ لها المدائحَ والنَّشائد، لِما أدركُوا لها من دورٍ حيٍّ وفعَّالٍ في العمل الخلاصيّ. فصارتِ العذراءُ مريم، المِثالَ الأوَّل لكلِّ مسيحيٍّ يَسعَى إلى اتـِّباعِ المعلِّم الإلهيّ، وإلى سَماعِ صوتِهِ العذب كما سَمِعَتْ هي، وإلى حِملِهِ في أعماقِ كَيانِنا كما حَمَلَتْهُ هي، وإلى إعطائِهِ للعالمِ على مثالِها.
هذا ما يؤكِّدُهُ القدِّيسُ غريغوريوسُ النزينزي بقولِه: “إذا لم يؤمِنْ أحدٌ أن مريمَ هي والدةُ الإله، فهو غريبٌ عنِ الله. هذا ليسَ بلقبِ شرفٍ، إنما هو عقيدةٌ تـُحدِّدُ مفهومَ كونِ المسيح، يَحوي في ذاتِهِ في آنٍ معاً اللاهوتَ الكاملَ والناسوتَ الكامل، في اتحادٍ بلا انفصالٍ أو تغيير”، وهذا ما عنى به آباءُ المجمعِ المسكونيّ بتحديدِهم: “وتجسَّدَ من الروحِ القدس، ومن مريمَ العذراءِ وتأنَّس”.
مريمُ العذراءِ هي إنـسانةٌ مخـلوقةٌ بحسبِ قانونِ التـَناسُلِ البشـريِّ على غِـرارِ كـلِّ بشريٍّ. وهذا ما يُعطينا اليقينَ أننا كبشرٍ، نستطيعُ قبولَ الإلهِ الذي أبعَدَتنا خطيئتُنا عنه، وبِنَعَمٍ نقولُها له كَنَعَمِ والدةِ الإلهِ للملاك، نَستَعيدُ الحياةَ تجري في عُروقِنا (المرأة السامريَّة؛ زكَّا العشَّار؛ المرأة الخاطئة …) مِن جَرَّاءِ لاهوتِهِ، الذي يَنسَكِبُ فينا خلالَ اشتِراكِنا في أسرارِ الكنيسة.
إن اختِبارَ مريمَ الإيمانيّ هو اختِبارُ تلاقَى فيه العهدُ القديمِ بالعهدِ الجديد، إختِبارٌ نَقَلَنا من رجاءِ انتِظارِ المخلِّصِ إلى تجسُّدِهِ وحلولِه فيما بينَنا، حيث تؤكِّدُ الليتورجيَّةُ هذه النظرية، في صلاةٍ تختصِرُ لاهوت مريم، تقال في صلاة غروب الآحاد باللحن الأول: “لِنُنشِدْ لِمَريمَ البتول. والدةِ السَّيِّد. مَجدِ العالمِ كُلِّهِ. المَولودةِ من نَسلٍ بشريّ. البابِ السَّماويّ. مِدحَةِ الَّذينَ لا جَسَدَ لهم. جمالِ المؤمنين. فإنها أَضحَتْ سَماءً وهَيكلاً للاَّهوت. ونَقَضَتْ حاجِزَ العداوة. وجَلَبَتِ السَّلامَ عِوَضاً عنه. وفَتَحَتِ الملكوت. فهي لنا مِرساةٌ للإيمان. والرَّبُّ مَولودُها عاضِدٌ لنا. فَتَشَجَّعِ الآن. تشجَّعْ يا شَعبَ الله. لأنهُ يُقاتِلُ أعداءَنا. بما أنهُ على كلِّ شيءٍ قدير”.
ما هذه الصلاةُ إلا وَقفةُ صمتٍ خاشعةٍ أمامَ إنسانةٍ وُلِدَتْ من نسلٍ بشريّ، إلا أنّها بإيمانِها الثابت، استَطاعَتْ أن تـُغيِّرَ وجهَ البشريَّةِ كلِّها، ناقلةً إيَّاها من حالةِ البُعدِ عن الله تعالى والخطيئةِ المُرَّة والموتِ المُظلِم، إلى الحالةِ الفِردَوسيَّةِ الأولى، حالةِ الشَرِكةِ الكاملةِ مع اللهِ تعالى، التي هي الحياةُ بذاتِها، إنها أُمُّ الحياةِ. وهذا ما يؤكِّدُهُ أيضاً اللاهوتيُّ الكبير هانس بالتازار بقولِهِ: “عندَ تلاقي كلّ الطُرُقِ الآتيةِ من العهدِ القديم نحوَ العهدِ الجديد، يوجدُ اختِبارُ مريمَ لحياةِ الله، إختِبارٌ غنيّ ومُختَفٍ، وبالكادِ نستطيعُ أن نَصِفَهُ. لكنه اختِبارٌ مهم إلى درجةِ أنهُ يَظهرُ دوماً كأنه عمقٌ لكلّ شيءٍ يتراءى لنا. فيها تنتقِلْ صهيونُ إلى الكنيسة، والكلمةُ إلى الجسد، والرأسُ إلى الجسم. إنها في الواقعِ مكانُ البحبوحةِ الفائضة”.
إن العذراءَ مريم هي “إكليلُ العقائدِ” تَسطَعُ بأضوائِها على سرّ الثالوثِ الذي تَنعَكِسُ أنوارُهُ على البشر، هذا ما تؤكِّدُهُ الصَّلواتِ الليتورجيَّة: “لقد ولَدتِ الابنَ بغيرِ أبٍ، ذاكَ الابنُ الذي وُلِدَ من الآبِ بغيرِ أُمٍّ”. فأُبُوَّةِ الآبِ الإلهيّ من غيرِ أُمٍّ يوازيها أمومةُ والدةِ الإلهِ البشريَّةِ من غيرِ أبٍ: تلكَ هي صورةُ الكنيسةِ في بَكارةِ أُمومتِها، مما جَعَلَ القدِّيس كبريانوس على القول: “مَن ليستِ الكنيسةُ أُمَّه، لا يكونُ اللهُ أباه“.
فمريمُ تعبِّرُ عن حُبِّ اللهِ للبشر. فالكلمةُ ما كانَ تسنَّى له قطّ أن يتجسَّدَ، والبشريَّةُ أن تَخلُصَ، لو لم تكن مريم، في انعِطافِ قلبِها لمشيئةِ الله، أي في نقاوتِها الكليَّة، قد قالت لخالِقِها: “ليكن ذلك”.
ويُفصِحِ البار نيقولاوس كابازيلاس عن ذلك في عِظَةٍ له عن البشارة: “لم يكنِ التجسُّدُ من عملِ الآبِ وحِكمَتِهِ وروحِهِ فقط، بل أيضاً من عملِ العذراءِ ومشيئتِها وإيمانِها …”؛ وبصورةٍ بديعة، قال اللاهوتي بول إفدوكيموف وهو يعلِّقُ على سرّ مريم في البشريَّة: “ليستْ مريمُ امرأةً كسائرِ النساء، بل هي المرأةُ المُقبلةُ وقد رُمِّمَتْ بكارةُ أمومَتِها. فالبشريَّةُ قاطبةً تَلِدُ الله في مريم: فلذلكَ مريمُ هي حوَّاءُ (حياة) الجديدةُ. وعِنايَتُها الوالديَّةِ التي كانت تَحضُنُ الطفلَ يسوع، إنما تَحضُنُ الآنَ العالمَ وكلَّ كائنٍ بشريّ. فالكلماتُ التي أُرسِلَت على الصَّليبِ إلى الأُم: “يا امرأة هوذا ابنُكِ”، وإلى يوحنا: “هي ذي أُمُّكَ”، إنما تـُنَصِّبُها في هذه الكرامة، كرامةِ الشَّفاعةِ الوالديَّة … إنتقالُ العذراءِ يُوصِدُ أبوابَ الموت، فتَختُمُ على العدمِ ختماً بمهرِهِ من عَلُ، الإلهُ / الإنسان، ومن أسفل، الخليقةُ الجديدةُ الأولى النَّاهضةُ من الموتِ والمؤلَّهة”. إنها حقاً الخليقةُ المؤلَّهةُ يَتَعانَقُ في وَجهِها، السَّماويُّ والبشريُّ.