«يقول الجاهل في قلبه: ليس إله». الإلحاد في الكتاب المقدّس
الكتاب المقدّس هو مكتبةٌ صغيرةٌ من الكتب تركّز بشدّةٍ على الله. يتمّ تقديم الله على أنّه خالق الكون، ومهندس كوكب الأرض، موطن البشريّة. كشف الله في الكتاب المقدّس عن شخصيّته، وشريعته، وحكمته، ونعمته، وأهدافه الخلاصيّة. من خلال أنبيائه، تحدّث الله إلى البشريّة في ظروفٍ متنوّعةٍ وفي العديد من الموضوعات. لقد وبّخ الله البشريّة، بما في ذلك شعبه الخاص إسرائيل، على أعمالها الفاسدة والخاطئة. من أهمّ هذه النزعات ميل البشريّة إلى الانغماس في عبادة الأصنام، إمّا في عبادة آلهةٍ مختلفةٍ أو في صُنع أصنامٍ تمثِّل هذه الآلهة. توجد مقاطع في الكتاب المقدّس توبيخ البشريّة لتجاهلها الله. لكنّ الغريب أنّ الكتاب المقدّس لا يذكر إلّا القليل عن الإلحاد والإيمان بعدم وجود إله.
في هذا السياق، تتبادر إلى الذهن آيةٌ مشهورة: «يقول الجاهل في قلبه: ليس إله». ترد هذه الآية في مقطعين من سفر المزامير (١:١٤؛ ١:٥٣). ما معنى القول الجريء: «ليس إله». يؤكّد المعلّقون بحقٍّ أنّ العبارة ليست إنكارًا حرفيًّا لوجود الله، ولكنّها وصفٌ للأشرار الذين يعيشون ويتصرّفون كما لو أنّ الله لا ينتبه للسلوك البشريّ. تدعم سياقات المزامير ١٠ و١٤ و٥٣ هذا التفسير. وفقًا للمزمور ١٠، «الشرّير بكبريائه يلاحق البائس … والطمّاع يلعن الربّ وبه يستهين» (الآيتان ٢-٣). يؤمن الإنسان الشرّير أنّ الله «لن يرى أبدًا» أعماله الشرّيرة (آ. ٤). علاوةً على ذلك، يعتقد هذا الإنسان أنّه لن يواجه الشدائد أبدًا، ولكنّه سينجو من بالسرقة والقتل (الآيات ٦، ٨-٩). بحسب المزمور ١٤ و٥٣، فإنّ الإنسان الذي يقول «ليس إله» هو فاسدٌ وكذّابٌ ولا يفعل الخير أبدًا. ليس من المستغرب أن يستشهد بولس الرسول بأجزاءٍ من هذه المزامير ليوضّح وجهة نظره القائلة بأنّه لا يوجد إنسانٌ بارٌّ وأن لا أحد يبحث عن الله (رومة ١٠:٣-١٢).
يتمّ التعبير عن أفكارٍ مماثلةٍ في مكانٍ آخر في الكتاب المقدّس العبريّ. بحسب المزمور ٧٣، يسأل الأشرار، «كيف يكون الله عالِمًا وهل من علمٍ عند العليّ؟» (آ. ١١). نجد الفكرة نفسها عند الأنبياء. يقول إرميا: «جَحَدوا الربّ وقالوا: لا وجود له فلا يَنزِل بنا شرٌّ ولا نرى سيفًا ولا جوعًا» (١٢:٥)، بينما يحذّر الربّ، في صفنيا، من أنّه سيعاقب البشر «القائلين في قلوبهم لا يأتي الربّ بخيرٍ ولا بِشَرٍّ» (١٢:١)، أي أنّ الربّ لن يفعل شيئًا ردًّا على السلوك البشريّ، سواء لمكافأة الصدّيقين أو لمعاقبة الأشرار. باختصار، إنّ إعلان «ليس إله» هو تعبيرٌ عن الإلحاد العمليّ، والعيش كما لو أنّ الله بعيدٌ وغير مبالٍ. وعليه، فإنّ الملحدين في الكتاب المقدّس هم أولئك الذين يؤمنون أنّ الله لا ينتبه إلى السلوك البشريّ، سواء لمكافأةٍ أو لعقاب. لذلك، فإنّ الشرّير يمكنه أن يفعل ما يشاء. لا داعي للخوف من أنّ الله سوف يراقبه أو يتّخذ إجراءاتٍ ضدّه. إنّ تأكيد الجاهل على أنْ «ليس إله» ليس تعبيرًا عن الإلحاد الفلسفيّ بل هو افتراضٌ متهوِّرٌ بأنّ الله لا يهتمّ بالشؤون البشريّة.
في أواخر العصور القديمة بدأت الأمور تتغيّر. من المؤكّد أنّ الإيمان بالله (أو في معظم الحالات بالآلهة) ظلّ عالميًّا تقريبًا. من الصعب للغاية اكتشاف الإلحاد الصريح في العالم الكلاسيكيّ في العصور القديمة المتأخّرة. ومع ذلك، فقد بدأت بعض الدوائر الفلسفيّة في التشكيك بالمعتقدات التقليديّة حول الآلهة. شكَّك عددٌ قليلٌ من الفلاسفة والكُتَّاب في العالم اليونانيّ في وجود الآلهة التقليديّة، أي آلهة أوليمبوس. على سبيل المثال، ادّعى البعض أن أبيقور، الذي علَّم علنًا أنّ الآلهة موجودةٌ لكنّها لا تنتبه لشؤون البشر، كان ملحدًا حقًّا ولكنّه أبقى هذا الرأي سرًّا خوفًا من العامّة. في سياقٍ أكاديميٍّ كما هو موصوفٌ في أفلاطون، أُثيرت مسألة وجود الآلهة أو الله. يتحدّث أفلاطون أيضًا عن المعاصرين الذين يعتقدون أنّ الصدفة هي مَن تحكم العالم وليس الآلهة، وأنّ الأخلاق هي من صُنع الإنسان وليست إلهيّة. وبالمثل، في مسرحيّةٍ من تأليف كريتياس، تؤكّد شخصيّةٌ ما أنّ الآلهة هي اختراعٌ مصمَّمٌ لردع الجريمة التي لولا ذلك لن يتمّ اكتشافها وبالتالي تفلت من العقاب. يتحدّث أفلاطون أيضًا عن أولئك (مثل أبيقور) الذين يؤكّدون أنّ الآلهة موجودةٌ ولكنّها غير مباليّةٍ بالإنسانيّة. هنا لدينا إلحادٌ عمليٌّ لا يختلف عمّا نراه في المزامير العبريّة.