-
نقرأ في الإنجيل الرابع أنّ «الكلمة صار جسدًا، فسكن بيننا» (١٤:١). يشير هذا بالطبع إلى أنّ كلمة الله الأبديّ أصبح بشريًّا، وبالتالي بدأ في الوجود ويتصرّف من خلال الطبيعة البشريّة، أي ضمن الحدود المقيَّدة للمكان والزمان. كان الكلمة حاضرًا وفاعلًا. أصبح الكلمة المحيي، صورة الله غير المرئيّ، جسدًا في عصرٍ ما في التاريخ وفي موقعٍ جغرافيٍّ واحد. الكلمة اللانهائيّ والأبديّ الذي يسكن في نورٍ يصعب الوصول إليه أصبح متاحًا في المكان والزمان. هكذا نسمع، ونرى بأعيننا، ونلمس بأيدينا، السرّ الذي كان مخفيًّا عن الإدراك البشريّ خلال العصور السابقة.
-
من خلال الوصول بالإيمان إلى الكلمة المتجسّد، لا نَخْلُص فقط، بل نصبح أيضًا مشاركين في الألوهيّة. نصير بالنعمة ما كان المسيح بالطبيعة. فالهدف من تجسُّد الكلمة هو تأليهنا: «ومن ملئه نحن كلّنا أخذنا ونعمةً فوق نعمة» (يوحنّا ١٦:١). هذا التبادل العجيب، الذي اتّحد به اللاهوت والناسوت، هو جوهر الإيمان المسيحيّ. وبطريقةٍ عجيبةٍ بالقدر نفسه، يتمّ يتصوّره في كلّ مرّةٍ نفتح فيها قلوبنا وحياتنا لكلمة الله.
-
تجسّد الكلمة في سياق إنسانيّتنا المقيَّدة بزمن. تحدَّث الكلمة، ليس في التجريد، بل في حدود وجودنا الأرضيّ المحدود، بطريقةٍ تجعله مشروطًا بالمكان والزمن الذي عاش فيها. فقد تحدَّث يسوع باللغة الآراميّة بلكنةٍ جليليّة؛ إذ بهذه الطريقة فقط تمكَّن مستمعوه من فهم ما كان يقوله. ففي التجسّد، تمّ «اختصار» الكلمة الأبديّ واللانهائيّ ليُلائم القيود البشريّة. يُحدِّثنا الكلمة كما نحن، وأين نحن: «إنّ الكلمة قريبةٌ منك في فمك وفي قلبك» (رومة ٨:١٠؛ راجع أيضًا تثنية ١٢:٣٠-١٤).
-
أولئك الذين تحدَّث يسوع إليهم مباشرةً أُعطوا مَهمّة إعلان البشارة لجميع الأمم حتّى انقضاء الدهر. وبقوّة الروح القدس، تمّ إنشاء ذكرى للكلمة (Anamnesis)، التي يمكن نقلها من جيلٍ إلى جيلٍ أوّلًا شفهيًّا، ثمّ كتابة. بمعنى آخر، أصبح الكلمة نصًّا وحلَّ بيننا. لقد خضع كلمة الله المحيي لتفريغٍ آخر (Kenosis) وأظهر نفسه من خلال علاماتٍ على الصفحة. يتمّ تلقِّي الكلمات المقدّسة وتسليمها وتفسيرها وترجمتها -تخضع لآلاف التقلُّبات- ولكنّها لا تزال تتوسّط بشكلٍ سريٍّ قوّة الروح القدس لإحياء الحروف والنفوس الميّتة.
-
تصبح قراءة هذه الكلمات قراءةً إلهيّةً فقط من خلال عمل الروح القدس الذي نختبره فينا كعطيّةٍ للإيمان. بدون إيمانٍ أوّليٍّ على الأقلّ، فإنّ قراءة الكتاب المقدّس هي مجرّد تمرينٍ أكاديميٍّ أو تثقيفيّ. فالإيمان يأتي من الإصغاء، من تلقِّي الكلمة، إمّا مباشرةً من خلال الكتاب المقدّس أو من خلال الوسيط. وتمرّ هذه النعمة الأساسيّة بخمس مراحلَ قبل أن تكتمل:
-
أوّلًا: نختبر شيئًا من القوّة العاطفيّة المتأصّلة في هذه الكلمات المكتوبة، ولها تأثيرٌ قويٌّ علينا. نشعر بأنّنا ننجذب بقوّةٍ إلى ما وراء مجال تفكيرنا الطبيعيّ، وبالتالي نُدرك الرغبة في التعمُّق، وحينها نسمع كلمات يسوع هذه الموجَّهة إلينا أيضًا: «تعال وانظر» (يوحنّا ٣٩:١).
-
ثانيًا: بطريقةٍ ما، تنفتح أعيننا ونلقي نظرةً خاطفةً على مجد العالم الروحيّ غير المرئيّ لحواسنا. نختبر التنوير، وهو الجانب من الإيمان الذي تمّ التأكيد عليه في الرسالة البابويّة «نور الإيمان» للبابا فرنسيس.
-
ثالثًا: نحن مخوَّلون للمصادقة على ما تمّ كشفه لنا. هذه هي اللحظة المركزيّة والأساسيّة للإيمان. بهذا الفعل نقول «آمين» لله ولكلّ ما رتَّبَتْه عنايته الإلهيّة.
-
رابعًا: الشعور بالفطرة بأنّ الإيمان بدون أعمالٍ ميّتٌ، محاولين ترجمة ما رأيناه على الجبل إلى عملٍ يوميّ، حتّى لا يكون هناك تناقضٌ بين ما نقرأه وما نفعله. بمعنى أنّنا نصبح ما نقرأ. يصبح الإيمان المستنير ممارسةً.
-
خامسًا: الإيمان يعني الإخلاص. فقط ذلك الإيمان الأصيل الذي يتّسم بالمثابرة.
-
تصبح قراءتنا المليئة بالإيمان لكلمة الله أساس حياتنا الروحيّة بأكملها. إنّها توفِّر لنا قناةً يمكننا من خلالها الاتّصال بالعالم الروحيّ، والاستمرار في تنشيط هذا الاتّصال المستمرّ. إنّها مصدرٌ للتعليم والتنوير. إنّها تقودنا إلى إعطاء موافقةٍ حقيقيّةٍ وليست مجرّد موافقةٍ نظريّةٍ على خطّة الله للخلاص. إنّها توجِّه حياتنا اليوميّة. فالقراءة الإلهيّة هي أساس حياتنا الروحيّة بأكملها.