الكنيسة الكاثوليكيّة كنيسة التجدُّد الدائم
القسم الأوّل
كمكوِّنٍ سياسيٍّ في العالم المعاصر، تلعب الكنيسة الكاثوليكيّة دورًا مهمًّا وإنْ كان متناقضًا في الشؤون الدوليّة. في ٢٥ شباط عام ١٩٧١، في موسكو، قام رئيس الأساقفة أغوستينو كازارولي، رئيس مكتب الشؤون العامّة في الفاتيكان، بتوقيع الكرسي الرسولي على إقرار المعاهدة الدوليّة للحدّ من انتشار الأسلحة النوويّة. في نفس اليوم، في لندن وواشنطن، وقَّع المندوبون الرسوليّون في إنكلترا والولايات المتّحدة على وثائقَ مماثلة. تثير مشاركة الممثِّلين البابويِّين في هذا الاتّفاق الدوليّ عددًا من التساؤلات في النظام السياسيّ، ليس أقلّها المشكلة الأساسيّة المتعلِّقة بطبيعة البابويّة كدولةٍ ذات سيادة. لا توجد مؤسّسةٌ دينيّةٌ أخرى في العالم الحديث تعمل ككنيسةٍ ومنظّمةٍ سياسيّةٍ تتبادل الممثِّلين الدبلوماسيِّين وتطالب بالاعتراف الكامل كعضوٍ مستقلٍّ في المجتمع الدوليّ. على الرغم من أنّ مؤسِّسها، يسوع المسيح، قد قال صراحةً، «مملكتي ليست من هذا العالم» (يوحنّا ٣٦:١٨)، إلّا أنّه لا شكّ في أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة هي مؤسَّسةٌ واحدةٌ في عالم اليوم ذات تقليدٍ أصيلٍ يعود إلى أكثر من ١٥٠٠عام من النشاط السياسيّ.
من الواضح أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة، إلى جانب معظم المؤسّسات السياسيّة المعاصرة الأخرى، تمرّ بثورةٍ داخليّةٍ سريعة. تمّ توفير مفتاحٍ لفهم هذه الظاهرة من خلال دعوة البابا يوحنّا الثالث والعشرين إلى تحديثٍ لبُنية الكنيسة ومهامها بما يتماشى مع «علامات العصر». تمّ وضع الخطّة الأساسيّة خلال الجلسات الأربع للمجمع الفاتيكاني الثاني (١٩٦٢-١٩٦٥)، عندما قام أساقفة الكنيسة واللاهوتيّون والخبراء العلمانيّون بصياغة سلسلةٍ من ١٦ وثيقة تصف الكنيسة في قانونها الداخليّ، من جهة، وفي مواجهتها مع العالم الخارجيّ، من جهةٍ أخرى. كان هذا التطوّر المجمعيّ في الأساس اقتراحًا من الكاردينال البلجيكيّ ليون جوزيف سوينِز، الذي مثَّل عقل البابا يوحنّا فيما يتعلّق بالاتّجاه الذي يريد المجمع أن يتقدّم فيه. لقد كان المجمع مدعومًا من خليفة يوحنّا، في البداية جوفاني باتّيستا مونتيني ككاردينالٍ من ميلانو ثمّ البابا بولس السادس، عندما حلّ محلّ يوحنّا كحبرٍ أعظم للكنيسة الكاثوليكيّة في ٢١ حزيران عام ١٩٦٣.
أدخل المجمع الفاتيكاني الثاني تغييراتٍ في بُنية الكنيسة الكاثوليكيّة ومَهمّتها، والتي تُعتبر جوهريّةً في كلٍّ من الصورة الذاتيّة الداخليّة لتلك المؤسّسة وأنشطتها في المجتمع المعاصر. تمّ تخصيص عددٍ كبيرٍ من الدراسات اللاهوتيّة للدساتير والمراسيم الستة عشر الصادرة عن المجمع. بُذِلَت محاولاتٌ أخرى لتحليل أهميّة التوجُّه السياسيّ الجديد للكنيسة. سنُقدِّم فكرةً عن هذه المَهمّة بالتحديد.
١. استقلاليّة الفاتيكان وحياده
حرصت سلطات الفاتيكان على عدم استناد مطالبة الكنيسة بسيادةٍ دوليّةٍ على الوضع المستقلّ لدولة الفاتيكان. يتمّ التوقيع على المواثيق والاتّفاقيّات الدوليّة مع الدول الأخرى من قبل ممثَّل البابا كحبرٍ أعظم للكنيسة الكاثوليكيّة، القائد الروحيّ المعترف به لأكثر من مليار مؤمنٍ منتشرين في جميع أنحاء العالم. تمّ توضيح هذا المفهوم لسيادة الكرسي الرسولي في معاهدة لاتيران عام ١٩٢٩، التي وقَّعتها الحكومة الإيطاليّة وأمين سرّ دولة الفاتيكان (Secretary of State)، والتي وضعت حدًّا لِما يُسمَّى بِـ «المسألة الرومانيّة» التي نتجت عن قمع سيادة البابا الزمنيّة على الولايات البابويّة من قبل الحكومة البييمونتيّة (شمال غرب إيطاليا) في العام ١٨٧٠. احتجاجًا على ذلك، أعلن الباباوات أنفسهم سجناء الفاتيكان، ولم يعترفوا بشرعيّة الحكومة الإيطاليّة، ورفضوا الاعتراف بالاستقلال البابويّ والتعويض الماليّ الذي أقرّه البرلمان الإيطاليّ باعتباره قانون الضمانات عام ١٨٧١.
جسَّدت معاهدة لاتيران عام ١٩٢٩ الأحكام الماليّة والسياسيّة الرئيسيّة لقانون الضمانات، واعترفت بسيادة البابا كحبرٍ أعظم للكرسي الرسولي، وكذلك استقلاله كحاكمٍ لدولة الفاتيكان. على الرغم من الغموض الذي ينطوي عليه الأمر، تمّ التمييز بشكلٍ واضحٍ بين موقعَي البابا. في العلاقات الدوليّة، أصرّ الباباوات الرومان على أنّ سيادتهم تنبع من الطابع التقليديّ والكونيّ للكنيسة. على هذا الأساس، يتبادل البابوات السفراء مع الدول المستقلّة، ويشاركون في الشؤون الدوليّة، ويحاولون أحيانًا العمل كوسطاءَ في النزاعات بين الدول.
وُفِّرَ الأساس القانونيّ لهذا المفهوم من خلال النظريّة القائلة إنّ الكنيسة تشكِّل مجتمعًا كاملًا، يُعرَّف بأنّه مؤسّسةٌ قادرةٌ على الحفاظ على خيراتها الكاملة في نظامها الخاص، وبالحقّ، التصرُّف بكلّ الوسائل لتحقيق ذلك الهدف. لذلك، فهي مُكتفيّةٌ ذاتيًّا ومستقلّة. هذا هو الوضع الذي تعترف به معاهدة لاتيران، وعزَّزه إعلان الكرسي الرسولي نيّته البقاء خارج أيّ منافسةٍ إقليميّة، واصفًا نفسه بأنّه دولةٌ محايدة. نتيجةً لهذا الإعلان، تمّ الاعتراف بحياد دولة الفاتيكان في النظام الدوليّ، خصوصًا خلال الحرب العالميّة الثانية، عندما تمّ منح دبلوماسيِّي الفاتيكان ومسؤولي الكنيسة حريّة الوصول إلى الكرسي الرسولي من قبل كلٍّ من دول المحور والحلفاء.
طُوِّرَ مفهوم «المجتمع المثاليّ»[1] من نظريّات القانون الطبيعيّ التي روَّج لها بوفندورف (Puffendorf) وأبطال الحقوق المدنيّة البروتستانت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، خصوصًا في الجدل مع الملوك والأمراء الكاثوليك. من خلال سيرورةٍ حتميّة، استوعبت الكنيسة الكاثوليكيّة الفكرة كما هي مطبَّقةٌ على النظام الدوليّ وأصبحت نصيرتها في العالم المعاصر. تمّ التعبير عن هذا التطوّر بشكلٍ كلاسيكيٍّ في معاهد الكاردينال ألفريدو أوتافياني (Alefredo Ottaviani) للقانون العام للكنيسة، نُشِرَت الطبعة الرابعة منها في العام ١٩٦٠، عشيّة المجمع الفاتيكانيّ الثاني.
٢. الإصلاحات البابويّة
إيديولوجيًّا وعمليًّا في آنٍ واحدٍ، يدير البابا النشاط السياسيّ للفاتيكان من خلال وزير الخارجيّة ومجمع الشؤون العامّة للكنيسة. كان فصل هذين المنصبَين جزءًا من إعادة تنظيمٍ واسعة النطاق للكوريا الرومانيّة أو البيروقراطية الإداريّة البابويّة، والتي بدأها البابا بولس السادس حتّى قبل نهاية المجمع الفاتيكانيّ الثاني. في ٧ كانون الأوّل ١٩٦٥، نشر بولس السادس براءةً ألغى فيها المجمع الأعلى للمكتب المقدّس بجهازه الاستقصائيّ، وأنشأ مجمعًا جديدًا لعقيدة الإيمان. كانت هذه الخطوة متماشيّةً مع حساسيّةٍ تجاه النقد الذي كان موضوع المكتب المقدّس القديم خلال المجمع. ومع ذلك، بالتوافق مع الأساليب التدريجيّة للبابا بولس، احتفظ بالكاردينال أوتافياني رئيسًا للمجمع الجديد، واحتفظ بمعظم موظَّفي أوتافياني.
وهكذا، على الرغم من البُنية والقواعد الجديدة التي تَحُدّ اختصاص هذا المكتب على مسائل العقيدة والانضباط، إلّا أنّ أعضاءه واصلوا التدخُّل في أنشطة الفروع الأخرى للحكومة المركزيّة للكنيسة. لقد استندوا في حقّهم في القيام بذلك إلى امتياز المجمع في توخِّي اليقظة فيما يتعلّق بمسائل الإيمان والأخلاق، بما في ذلك، من وجهة نظرهم، المشاركة السياسيّة للكنيسة. في غضون ذلك، أجرى البابا إصلاحًا لجميع مكاتب الفاتيكان بسلسلةٍ من البراءات، بدءًا من «(حكم) الكنيسة المقدّسة» (٦ آب ١٩٦٦)، التي أعادت جزئيًّا هيكلة مجمع نشر الإيمان، و«كنيسة المسيح الكاثوليكيّة»، التي شكَّلت المجلس العلمانيّ ولجنة العدل والسلام.
سعيًا وراء سياسة تدويل عضويّة الكوريا، «أنا مقتنعٌ» في ٦ آب ١٩٦٧، عيَّن أساقفةً أبرشيّين كأعضاءٍ مصوِّتين في مختلف المجامع ال، وأَذِنَ بإدخال كرادلةٍ غير الإيطاليّين كرؤساء لتلك المجامع. أخيرًا، في ١ آب ١٩٦٧، أدّت الرسالة الرسوليّة «لحكم الكنيسة الجامعة» متبوعةً بِـ «تنظيم الكوريا الرومانيّة» في ٢٢ تشرين الأوّل من العام نفسه، إلى إعادة توجيهٍ كاملةٍ للمكاتب الإداريّة للبابا، التي يتمّ تنظيمها الآن بموجب المصطلح العام للأسرة البابويّة.
غيَّرت هذه الوثائق أسماء المكاتب الإداريّة البابويّة وفتحت الطريق لتدويل موظّفيها. بدأت هذه العمليّة باستبدال الكاردينال اليوغوسلافيّ فرانجو سيبر (Franjo Seper) بألفريدو أوتافياني بصفته رئيسًا لمجمع عقيدة الإيمان في كانون الثاني عام ١٩٦٨، واكتملت بترقيّة الكاردينال الفرنسيّ، جان فيو (Jean Villot)، أمينًا لسرّ الدولة في ٣٠ نيسان عام ١٩٦٩. للحدِّ من النزاعات الداخليّة بين المجامع الإداريّة، عيَّن البابا وزير الخارجيّة منسِّقًا للمكاتب الإداريّة البابويّة وأَمَرَ بعقد اجتماعٍ شهريٍّ تحت رعاية أمين السرّ. وهكذا قام بتسويّة نزاعٍ طويل الأَمَد بشأن سيادة النفوذ، خصوصًا بين مجمع عقيدة الإيمان ووزير الخارجيّة.
من بين الإصلاحات الداخليّة التي أدخلها البابا بولس إلغاء الطبقة الأرستقراطيّة البابويّة القديمة والتخفيف التدريجيّ من طقوس عصر النهضة التي رافقت البابا في المناسبات الاحتفاليّة. كان من الأهميّة بمكان إلغاء نظام التوصيّة، حيث أكَّد شاغل المنصب الأدنى حقّه التقديريّ في المنصب الأعلى منه وطلب ممّن هم في منصبٍ كنسيٍّ رفيعٍ أن يناشدوا البابا نيابةً عنه. مع «حكم الكنيسة»، شرَّع بولس السادس تعيين أصحاب المناصب في البيت البابويّ لمدّة خمس سنوات؛ لم يكن لديه الحقّ في الترقيّة أو إعادة التعيين؛ وعند وفاة البابا، يفقدون حقّهم الكامل في مناصبهم. لقد أوصى بشدّةٍ ألّا يُعيِّن البابوات الجدد مسؤولين إداريِّين إلّا بعد أن يكونوا في مناصبهم لمدّة ثلاثة أشهر. أخيرًا، في كانون الأوّل عام ١٩٧٠، عشيّة رحيله إلى الشرق الأقصى، ألغى بولس السادس من المشاركة في الانتخابات البابويّة جميع الكرادلة الذين يبلغون سنّ الثمانين، وأجبرهم، في الوقت نفسه، على تسليم جميع المناصب الكنسيّة.
-
يُطلَق هذا الاسم على واحدةٍ من العديد من النظريّات الكنسيّة والقانونيّة والسياسيّة للكنيسة الكاثوليكيّة. إنّه يشير إلى أنّ الكنيسة هي مجموعةٌ مكتفيّةٌ ذاتيًّا أو مستقلّة، ولديها بالفعل جميع الموارد والظروف اللازمة لتحقيق هدفها العام (النهاية النهائيّة) للخلاص الشامل للبشريّة. استُخدِم تاريخيًّا لتحديد العلاقات بين الكنيسة والدولة، ولتوفير أساسٍ نظريٍّ للسلطات التشريعيّة للكنيسة في فلسفة القانون الكنسيّ الكاثوليكيّ.