رؤية العالم
في العام ١٩٢٩، بعد وقتٍ قصيرٍ من توقيع معاهدة اللاتيران، أعلن بيوس الحادي عشر أنّه مستعدٌّ لمواجهة الشيطان إذا كان ذلك ضروريًّا لخير الكنيسة أو لخلاص النفوس. مفتاح رؤيته للعالم مؤلَّفٌ من رسالتَين بابويَّتين: «أين سرّ الله» (٢٣ كانون الأوّل عام ١٩٢٢)، و «الذي أوّلًا» (٢٣ كانون الأوّل ١٩٢٥). في الأولى، حدَّد البابا مكانة الكنيسة على أنّها «مجتمعٌ كاملٌ، سامٍ في نظامه الخاص». أمّا الثانية، التي أسَّس بها عيد المسيح الملك، فوصف فيها البابا سيادة المسيح على العالم. بصفته نائب المسيح، شعر البابا بأنّه مخوَّلٌ أن يحصل من كلّ بلدٍ على أكبر عددٍ ممكنٍ من الحقوق والامتيازات للكنيسة.
تفسِّر هذه القناعة ميله إلى الاتّفاقيّات التي حاول فيها تحقيق الاستقلال المطلق للإرادة الكنسيّة للكنيسة المحلِّيَّة، والتعليم الدينيّ، والتشريعات الزوجيّة، فضلًا عن الأمن الاقتصاديّ لمؤسَّساتها. في السعي لتحقيق هذه الأهداف، شعر بيوس أنّه مخوَّلٌ باستخدام أيّ أساليبَ سياسيّةٍ في متناول اليد. وهكذا، أبرم اتّفاقيّاتٍ مع حكومة موسوليني الفاشيّة لتأمين الاعتراف باستقلال الكرسي الرسولي الدوليّ، ومع نظام هتلر النازيّ لحماية حقوق الكاثوليك في الرايخ الثالث (ألمانيا النازيّة). دون التنصُّل صراحةً من هذه الاتّفاقيّات، حثّ المجمع الفاتيكانيّ الثاني الكنيسة على توخِّي الحذر من الاتّصالات مع الحكومات، بغضّ النظر عن السياسات السياسيّة التي يفضِّلونها.
يُقدِّر الروائيّ البريطانيّ أنطوني رودس بيوسَ الحادي عشر بشكلٍ صحيح باعتباره البابا المدرك تمامًا لحقّه الإلهيّ كنائبٍ للمسيح، متسلِّطًا في مواقفه، ويطالب بالطاعة الكاملة من رعاياه، والاحترام المطلق لتأكيداته على حقوق الكنيسة في المجال الدنيويّ. إنّ كتابه هو دفاعٌ عن سياسات كلٍّ من بيوس الحادي عشر وبيوس الثاني عشر. إنّه يعترف بأنّ اعتقاد بيوس الحادي عشر بأنّ سلسلةً من الاتّفاقيّات مع الديكتاتوريِّين من شأنها أن تُعزِّز النشاط الرسوليّ للكنيسة بشكلٍ أكثر فاعليّة، كان خاطئًا بشكلٍ عام. ومع ذلك، فهو يُصِرّ على أنّ الكرسي الرسولي قد دعم بالفعل الجمهوريّات في كلٍّ من فرنسا وإسبانيا خلال أوائل ثلاثينيّات القرن الماضي؛ لم يُعْطِ موافقته على الحملة الإيطاليّة على الحبشة؛ سعى إلى أقصى حدٍّ من قدرته على حماية اليهود من الإبادة النازيّة والفاشيّة، وأدان هذه والإيديولوجيّات السوفيتيّة، مع التصرّف بحكمةٍ فائقةٍ للحفاظ على الحياد المطلق خلال الحرب العالميّة الثانيّة. يتعارض هذا الحكم، بالطبع، مع غالبيّة التقييمات التي تتناول ما يُسمَّى «صمت بيوس الثاني عشر» في مواجهة الفظائع النازيّة، وأنشطته الصليبيّة ضدّ انتشار الشيوعيّة.
أيًّا كان الحكم النهائيّ للتاريخ في هذه الأمور البراغماتيـّة، فقد كان بيوس الثاني عشر هو الذي اعترف في خطابه أمام المؤتمر الدوليّ العاشر للمؤرّخين (روما، أيلول ١٩٥٥) بعدم ملاءمة ادّعاء البابا بالسيادة على المجتمع المدنيّ الذي طرحه بيوس الحادي عشر. طالبًا بأن يُحكَم على الكنيسة وفقًا لرؤيتها الذاتيـّة، اعترف بيوس الثاني عشر بأنّ ادّعاء السيادة البابويّة في النظام السياسيّ – الذي أكّده البابا بونيفاس الثامن في العام ١٣٠٢ – كان غير مستدام، لكنّه أشار إلى منطق هذا التطوّر بما يتوافق مع طبيعة المجتمع الذي حدثت فيه؛ في الوقت نفسه، أشار إلى التطوّرات الجديدة في العلاقات بين الدين والدولة.
هنا يمكن إدراك عظمة البابا يوحنّا الثالث والعشرين. في رغبته الساذجة على ما يبدو بإعادة الكنيسة إلى الشكل البسيط الذي كانت تمتلكه عندما تركت يد المسيح، مؤسِّسها، كان هناك قطعٌ ثوريٌّ في المستنقع السياسيّ لقرون. لم يُنكر يوحنّا الثالث والعشرون حقّ الكنيسة في العمل في الوسط السياسيّ. لكنّه رأى أنّ مَهمّتها تكمن في طبيعة القوّة الإصلاحيّة التي تُلهِم الإنسان والشعوب للبحث عن التنميّة والسلام. حاول كلٌّ من المجمع الفاتيكانيّ الثاني وبولس السادس تجسيد هذا الموقف في تنفيذ النموذج اليوحنّاويّ.
إنّ أنشطة بولس السادس في التوصُّل إلى اتّفاقيّاتٍ مع الدول الشيوعيّة في الغرب وإدراكه الحاجة إلى توجُّهٍ جديدٍ للكنيسة في آسيا وإفريقيا وأجزاءٍ أخرى من العالم هي تطوّراتٌ ملحوظةٌ في التفكير والنشاط السياسيَّين. لا بدّ أن يكون لها انعكاساتٌ على جميع مجالات الاهتمامات الكنسيّة والدوليّة. في الوقت نفسه، فإنّ تشجيعه للمؤتمرات الأسقفيّة الوطنيّة لتحقيق الاستقلال عن التدخُّل الحكوميّ العلمانيّ في البلدان ذات الغالبيّة الكاثوليكيّة يساهم بشكلٍ أكبر في مراجعةٍ شاملةٍ للتوجُّه السياسيّ للكنيسة. هذا هو الحال بالتأكيد في إسبانيا، حيث طالب المؤتمر الأسقفيّ صراحةً بمراجعة الاتّفاق بين الحكومة والكرسي الرسولي بهدف إلغاء حقّ الحاكم في أن يكون له دورٌ في تعيين الأساقفة المقيمين.