اللاهوت السياسي بين الكنيسة والعالم

لمجد يسوع المخلّص

مقدمة
تعصف بعالم اليوم، وهو يجتاز سنواته الأولى من الألف الثالث، تغيرات كبيرة وسريعة: العولمة بجانبيها الحسن والرديء والتوجه المادي للحضارة عموما، وإنتشار الوثنية والإلحاد بحجة العصرنة ونسبية كل شيء إلى حد إن الروح القدس يدفع الكنيسة للولادة من جديد في الكثير من بقاع العالم لتقرأ علامات الأزمنة. ولعلّ السياسة من اكثر الأمور التي يهتم بها أبناء أدم عبر وسائل الإعلام، ليس في الفترة أعلاه، بل منذ القرون الميلادية الأولى. وقد انتبه اللاهوت المسيحي إلى هذا الموضوع الخطير، فطرح الكثير من اللاهوتيين في كل أرجاء الكنيسة عبر العالم أسئلةً عن موقف الرب يسوع المسيح وتلاميذه من قيصر وهيرودس وعظماء الدنيا آنذاك. لا بل تأمّلوا في أسفار العهد القديم حيث الكلمات العشر على جبل سيناء وتاريخ الشعب العبراني منذ البداية وحتى السبي، ثم من فترة ما بعد السبي وحتى ملء الأزمنة وتحاوروا ليصلوا إلى نتائجَ إيجابيّةٍ حول دور الكنيسة في الحياة وموقفها من العالم التي تحيا به. إنّ مجمل الفكر الذي يتناول العلاقة بين الدين والسياسة من وجهة النظر المسيحية يُسمَّى “اللاهوت السياسي”. ولكن علينا أولاً أن نتأمل في تأريخه ومتى وأين نشأ؟ وكيف يتقدم فهمه للحياة الإيمانية؟ ولماذا تهتم الكنيسة به؟ هذا ما سأحاول الإجابة عنه بعد قراءةٍ سريعةٍ لينابيعه وروافده وخصوصًا ونحن نجتاز مرحلةً دقيقةً من تاريخ المشرق العربي.
  • تأريخه
  1. الألف الميلادي الأول
كانت مؤسّسات دول الحضارات القديمة تربط الدين بالسياسة، هكذا كان الحال في الحضارة البابلية والإمبراطورية الفارسية واليونانية والرومانية وغيرها حيث كانت المؤسّسة الدينية في خدمة الملك أو الإمبراطور. يُعتبر المؤرخ أوسابيوس من أوائل المفكرين اللاهوتيين السياسيين حيث عاش في القرن الرابع الميلادي في ظلّ الإمبراطورية البيزنطية وملكها قسطنطين الذي اعتبره “حضور الله على الأرض” بعد انتصاره على الفرس. ولكنّ القديس أوغسطينس (القرن الخامس الميلادي) برأيي هو أبو اللاهوت السياسي، حيث عاش في فترة غزو الوثنيين روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية والمسيحية آنذاك وانهيار أحلام الكثيرين في دولةٍ مسيحية، فكتب كتبًا مهمّةً لا زالت معتمَدةً حتى اليوم منها: “مدينة الله”. وقدّم أقدم شكلٍ للاهوت السياسي رغم الجذور القديمة لهذا اللاهوت كما أسلفنا. فقد قال البعض من المؤرّخين إنّ الإمبراطورية الرومانية قبلت المسيحية كي تمثل الإيمان المسيحي وفق الثقافة الرومانية بجعله دينًا لكلّ الإمبراطورية، وبنفس الوقت أكّد البيلاجيون على خطيئة الرومان كسببٍ لانهيار الإمبراطورية. ولكنّ أوغسطينس رفض الفكرتين وقال إنّ السبب هو رفض عيش الإيمان بكونه قبول الخلاص بالرب يسوع وفق الإطار الشخصي والعام، فالفكر اليوناني والروماني المعبَّر عن إيمانه بالميثولوجيا (علم الأساطير) والسياسة يتناقض مع المسيحية عقليًّا وأدبيًّا ودينيًّا. فيجب أن يتأصّل أبناء مدينة الله بالمسيحية عبر عيش حياةٍ جماعيّةٍ مبنيّةٍ على تذكر موت وقيامة الرب وتوقّع مجيئه. لذلك فصل القديس أوغسطينس بين المملكة الأرضية وتلك السماوية، وركّز على المفهوم الكتابي للخطيئة الأصلية ففي البدء كان كلّ شيءٍ حَسَن، لا بل حَسَنٌ جدًّا كما قال الله عدّة مراتٍ في سفر التكوين (الفصل الأول)، ولكنّ تجاوز الإنسان أوصله إلى هذه النتيجة المؤلمة لأكثرية البشر.
  1. الألف الميلادي الثاني
برز المصلح مارتن لوثر في القرن السادس عشر ومعه عقيدته في الملكوتين: الملكوت الأرضي الشرير والسماوي الخيِّر ولكن بتوجُّهٍ فكريٍّ مغايرٍ للقديس أوغسطينس حيث أكّد على حرية الضمير لأنّه دون الحرية قد يتأثر الضمير بالسياسة، كما اعتبر المملكة الأرضية شريرةً لا يجب التدخل بشؤونها. ثم أعقبه مكيافيللي صاحب كتاب “الأمير” وتوماس هوبز (القرن 17) صاحب كتاب “لوياثان”. اشتدت الحاجة إلى اللاهوت السياسي في القرون الخمسة الماضية بسبب التطورات السياسية والثقافية والدينية التي طرأت على العالم بعد اكتشاف أميركا الشمالية والجنوبية والثورات الصناعية والسياسية في أوروبا.
ولعلّ من أبرز اللاهوتيين السياسيين بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى كارل شمدت (Karl Schmitt) سنة 1922 الذي دعا إلى لاهوتٍ سياسيٍّ لمعالجة تشوهات الفلسفة السياسية المعاصرة عندما تعالج مسائل مثل: المحافظة، الحرية، الجذرية خصوصًا مع تأثر أوروبا بفلاسفة القرن التاسع عشر وأبرزهم هيغل (الفلسفة المثالية) وماركس (الفلسفة المادية) فأصدر المفكّرون كتبًا تخص الموضوعين ومنهم أيضا رينهولد نيبهر (Reinhold Niebuhr) سنة 1932 الذي أكّد على استقلالية الدين وضرورة القبول الشخصي به.
كان لظهور الشيوعية (الماركسية) وبروز هتلر في أوروبا والحرب العالمية الثانية أهمية أكبر لإظهار دور اللاهوت السياسي لمساعدة أبناء الكنيسة في كيفية التصرف مع السياسيين والأحزاب السياسية رغم التشاؤم الأدبي الذي تعمّق بعد الحرب العالمية الثانية وما تبعها من إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناكازاكي، فطلب اللاهوتي كارل بارث واللاهوتي بولتمان ربط الإيمان المسيحي بالممارسة – وهذا ما يذكّرنا بقول القديس يعقوب في رسالته “إنّ الإيمان بدون أعمال ميت” – ولكن اللاهوتي بول تيليخ اعتبر هذا الربط توجُّهًا بروتستانتيًّا صرفًا وقال يجب أن نؤكّد على الوظيفة الأساسية للكنيسة في اتّباع الرب يسوع أولا لأنّ الانشغال بالأعمال سيؤدي إلى تحول الكنيسة إلى مؤسّسةٍ وإقرار القوانين وظهور البيروقراطية. ولكن بسبب التحضير للمجمع الفاتيكاني الثاني 1962-1965 وما تبعه من قراراتٍ كنسية، كانت فترة الستينات من أهم فترات وضع الإطار العام للاهوت السياسي الذي تطور وشمل مواضيع أخرى مثل لاهوت التحرير لمعالجة الوضع المتأزم للفقراء في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا، ولاهوت العدالة لمناقشة طلبات النساء في طلبهن المساواة مع الرجل، ولاهوت السود الذين هُجِّروا كعبيدٍ إلى أمريكا، وغيرها حيث نشط كثيرًا ميتز (Metz) ودرس تاريخه عبر الأديان فقال إنّ كلّ خطٍّ سياسيٍّ واحدٍ هو دكتاتورية وكلّ موقفٍ لاهوتيٍّ لوحده يعني الانعزالية ومن الضروري على الكنيسة أن تنفتح في حوار مع الفلاسفة المثاليين والماديين للوصول إلى نتائج أفضل.
  • المصادر الكتابية للاهوت السياسي
يعتبر الكتاب المقدس ينبوعًا يستقي منه اللاهوتيون السياسيون، فالكلمات العشر على جبل سيناء (النبي موسى سفر الخروج 20)، وأسفار الأنبياء عمومًا، والموعظة على الجبل (إنجيل متى 5-7)، ورسائل بولس ورسالة القديس يعقوب والرسالة الأولى ليوحنا وغيرها تُعتبر نصوصًا روحيّةً لا غنى عنها.
  • تساؤلات اللاهوتي
لاحظ المهتمون باللاهوت السياسي في الستينات الاهتمام المتزايد في العالم بمسألة التعددية الثقافية التي تدعو إلى فصل السياسة عن الدين حيث اقتنع الكثيرون بأنّ خلط الدين بالسياسة أدى ويؤدي وسيؤدي إلى تألم ملايين البشر. ولكن هل ينبغي على الكنيسة أن تنعزل عن العالم؟ هناك ثلاث حالاتٍ تُعطي إجاباتٍ توضيحيّةً عن حالة الكنيسة والعالم: فإمّا أن تختلط الكنيسة بالعالم كليًّا، كما كان الحال أيام الملك قسطنطين، أو أن تنفصل عنه كليًّا، أو أن تتفاعل معه لتؤثِّر به وتغيِّره.
إنّ لكلّ حالةٍ دعائمَ كتابيّةً ولاهوتيّةً وفلسفيّة، فالرب قال: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، وقال أيضًا: “لا تستطيعوا أن تعبدوا ربين: الله والمال”، وقال أيضًا: “أنتم في العالم ولستم من العالم”. ولكنّه طلب من تلاميذه إعلان البشارة إلى الناس أجمعين كلٌّ حسب اللغة التي يفهمها. وقد صَعُبَ على المسيحيين الأوائل تقديم الولاء لقيصر في وقتٍ يجب أن يقدِّموا ولائهم للرب يسوع وكانت النتيجة نهرًا من الدماء حتى مطلع القرن الرابع، واستمرت معاناة المسيحيين كما كانت الحالة في ما بين النهرين أيام شابور، وحتى في القرن العشرين عندما طلب هتلر الولاء له وترك القيم الدينية جانبًا.
  • بعض المنطلقات اللاهوتية
نعلم أنّ الدين هو سعي الإنسان للتسامي وانفتاحه نحو الحقيقة الكاملة. فهو مسألةٌ شخصيّةٌ ولكنّه ليس مسألةً خاصّةً لأنّ الدين ظاهرةٌ اجتماعية أيضًا. إنّ هذا السعي يتطلّب الصدق في الممارسة، لذلك دور اللاهوتي هو كشف الكذب لدى السياسي والمتدين الذي لا يحيا وفق إيمانه! إنّ هذا الكذب سيشوه الدين والسياسة ويؤلم الكثيرين ويولد صراعًا مريرًا، فهدف اللاهوتي هو تعريته لأجل شفاء المصابين به. فالعملية هي بمثابة موت الإنسان القديم وولادة الإنسان الجديد. وقد أكّد القديس بولس ذلك عندما طلب رؤية القوانين في المجتمع وفق منظار حقيقة الله. هنا يراقب اللاهوت السياسي الحركات السياسية وأفكارها وأهدافها، فله أيديولوجيّةٌ (فكرة) كتابيّةٌ تأمليّةٌ نقدية، ويدرس التركيبة الاقتصادية والسياسية للمجتمع، وبما أنّه ابن الكنيسة فإنّه يواجه الزمان والمكان بروحٍ منفتحةٍ حيث يستغل اللحظة التاريخية. إنّه يرفض تضييق الدين باتجاه الحياة الداخلية للشخص فقط؛ بل هو علاقةٌ حياتيّةٌ حيّةٌ ضمن المجتمع، ومسؤولية عيش القيم النبيلة والخالدة والسامية، والدفاع عن حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والسلام في العالم وغيرها.
إنّ اللاهوت السياسي يؤكّد أيضًا على الإيمان المتسامي بكونه شفاءً خلاصيًّا من خلال عيشٍ وتحوُّلٍ خلّاقٍ للفرد والمجتمع وللثقافات، وإنّ هذا الشفاء هو شكلٌ من أشكال القيامة. حسب كارل راهنر (Karl Rahner) “يستطيع المؤمن أن يُفسِّر الإنجيل شخصيًّا وفرديًّا شرط توفُّر الخاصية النقدية والأُخرويّة لملكوت الله، وهذا يتطلّب عيش الإنجيل أي الممارسة التي تُغيِّر المجتمع وتصبح معيار حقيقة الإيمان”. هنا راهنر لا يعطي شرعيّةً للنظرية أو الممارسة السياسية ولا لاستخدام اللاهوت من قبل السياسيين، لكنّه يقبل بديهية وحدة محبة الله والقريب معًا (راجع 1 يوحنا 4: 20)، ويقبل العامل السياسي الشعبي كأداة عملٍ مع النصوص الكتابية  لتفسير النص الكتابي واكتشاف الحقيقة اللاهوتية. كما يديم عملية إعادة تحديد العلاقة بين الدين والمجتمع وبين الإيمان ذو التوجه الأُخروي والممارسة الاجتماعية والسياسية. إنّ هذه الممارسة تمنع امتصاص الدين من قبل السياسيين وبالمقابل تمتص القوة منهم.
إنّ الوظيفة الاجتماعية والسياسية للإنجيل هي مصدرٌ دائمٌ للإبداع، فرجاء المسيحي بالمستقبل ومحبة الله والقريب تقوده إلى نقد كلّ تركيبةٍ لأجل الوصول إلى هذا الهدف، وتدعوه إلى محاولة تحسين المؤسّسات الاجتماعية. فمن خلال استياء الشخص من حالة العيش البائسة وطموحه في حالة عيشٍ أفضل يقوم بتحويل العالم ضمن السعي إلى خلق عالمٍ أفضل حاملاً الرجاء الصالح. من هنا إنّ كلّ خبرةٍ سلبيّةٍ هي احتجاجٌ لأجل التغيير، فالاحتجاج والإرادة الصلبة بهدف تغيير المجتمع ستتغذى بالرجاء بمستقبلٍ أفضل، وهكذا تتجدّد حالة الناس من خلال الفعل السياسي.
إنّ الكنيسة تحمل رسالة أُخرويّةً أي هي منفتحةٌ نحو المستقبل، وبالتالي تهتم بالفرد على أساس أنّ مستقبله يعتمد على علاقته مع الله من خلال المحبة التي يتم التعبير عنها بالسعي نحو الحرية والعدالة والمصالحة والسلام وقبول النقد الداخلي لأجل الحقيقة الآتية من الخارج. إنّ هذه الأهداف ليست شؤونًا فرديّةً خاصة، أي ما يقوم به اللاهوت السياسي هو ربط البعد العمودي للمحبة كفضيلةٍ ناتجةٍ من العلاقة مع الله (أنا – إلهي) مع البعد الأفقي نحو البشر جميعًا (أنا – إخوتي) ، وعندها لا يوجد ما يُعتبر صور حياةٍ ثانويّةٍ في المجتمع. هنا نؤكّد على أهميته أكثر عندما يفضح القادة السياسيين الذين يعتنقون مذهب الفعالية Activism (وهو مذهب السياسيين الذين يستغلون الدين لشن الحروب) ويدعو بدلاً من ذلك إلى البحث عن الحكمة المعاشة للخلاص من الظلم واللا إنسانية.
لقد قام ميتز وراهنر بتحويل عمل القديس توما الإكويني ذو الطابع العقلي والأدبي والديني حول الله والنعمة والحرية بما يناسب الحياة في القرن العشرين ومطلع الألف الثالث، وأكّدا على حاجتنا إلى التسامي عبر تذكُّر حياة وموت وقيامة الرب يسوع وانتظاره باستمرارٍ من خلال القداس.
إنّ ذاكرتنا عن الماضي تشير إلى قرونٍ مدمِّرةٍ للإنسان تم قتل عشرات الملايين من البشر ظلمًا، هذه تدعونا إلى إعادة بناء النقد التاريخي ورفض التحيز في الأحكام لأجل شفاء القوى المسيطرة على العالم من خلال استجابتهم للإيمان والرجاء والمحبة. وفي هذا الصدد يقول أدولف فون هارناك (Adolf Von Harnack) إنّ العلم والتكنولوجيا يستطيعان تقديم حالةٍ إنسانيّةٍ أفضل ولكن مع الدين سيعطي معنًى لا غنى عنه للوجود الإنساني.
الخلاصة
إنّ اللاهوت السياسي بمنطلقاته الفكرية وعمله يرفض خلط الأمور أو فصلها كليًّا بين الكنيسة والعالم؛ بل يسعى إلى إعلانٍ دائمٍ للقيم المسيحية وبشرى الإنجيل بالرجاء بالقيامة. يعتبر قبول الشخص للدين المسيحي لأجل التسامي والانفتاح نحو عطية الإيمان الممنوحة له وعيشه ضمن الجماعة مسألةً أساسيّةً لديمومة وحيوية إعلان البشارة شرط عدم الخلط بين الدين والسياسة بل السعي لتحويله إلى عالمٍ أفضل سعيًا نحو الحقيقة، حقيقة أنّ صليب المسيح يفصل بين الكنيسة والعالم. إنّ العالم اليوم يرفض القبول بأنّه خاطئ بحاجةٍ إلى التوبة وصحوة الضمير الذي انفلت من عقاله، ولن ينجو بدوره من الكوارث إلاّ بعيشه محبة الله والقريب.

 

Post navigation

Skip to content