- يقول القدّيس ثيوفانيس الحبيس (+ ١٨٩٤)، «إنّ جميع تراتيلنا الليترجيّة تعليميّةٌ، وعميقةٌ، وسامية. إنّها تحتوي على كلّ لاهوتنا وتعاليمنا الأخلاقيّة، وتَـمنحنا العزاء المسيحيّ، وتَغرس فينا الخوف من الدينونة. مَن يستمع إليها باهتمامٍ لا يحتاج إلى كتبٍ أخرى عن الإيمان».
- تُعتبر النصوص الليترجيّة بالنسبة للمسيحيّين البيزنطيّين سلطةً عقائديّةً لا تقبل الجدل، وتأتي عدم قابليّتها اللاهوتيّة للإصلاح في المرتبة الثانية بعد الكتاب المقدّس. ليست النصوص الليترجيّة مجرّد أعمالٍ للاهوتيِّين وشعراءَ بارزين فحسب، بل هي أيضًا ثمار خبرة الصلاة لأولئك الذين بلغوا القداسة والتألُّه.
- بهذا المعنى يمكن القول إنّ النصوص الليترجيّة هي «إنجيلٌ بحسب الكنيسة». خلال السنة الكنسيّة، من الميلاد إلى الصعود، تمرّ حياة المسيح على الأرض بالنظرة الروحيّة للمؤمنين. تقرِّبنا النصوص الليترجيّة من المسيح عند ولادته في بيت لحم، وعلى جبل طابور عندما تجلَّى، في عليّة صهيون أثناء العشاء الأخير وفي الجلجلة مع الصليب.
- ليست النصوص الليترجيّة مجرّد تعليقٍ على الأناجيل لأنّها تتحدّث، في كثيرٍ من الحالات، عمّا تنقله الأناجيل في صمت. أودّ أن أُعطي مثالًا من خدمة الميلاد. تتحدّث قراءة الإنجيل باختصارٍ شديدٍ عن ولادة المسيح: «أمّا أصل يسوع المسيح، فكان أنّ مريم أمّه، لمّا كانت مخطوبةً ليوسف، وُجِدَت قبل أن يتساكنا حاملًا من الروح القدس. وكان يوسف زوجها بارًّا، فلم يُرِد أن يشهر أمرها، فعزم على أن يطلِّقها سرًّا» (متّى ١٨:١-١٩). لقد ظلّ الكثير ممّا حدث في هذا الحدث مخفيًّا عنّا. على سبيل المثال، السرد صامتٌ عن الدراما الشخصيّة ليوسف: لا يسعنا إلّا أن نخمِّن مشاعره وشكوكه، وكذلك بشأن الكلمات التي قالها لخطيبته عندما عَلِمَ بحملها. تحاول النصوص الليترجيّة البيزنطيّة إعادة إنشاء حوارٍ بين يوسف ومريم في شكلٍ شعريّ:
- يقول يوسف للعذراء: ما هذا الذي أراه فيكِ يا مريم؟ إنّي متحيِّرٌ، ومندهشٌ، ومرتبك. ما هذا الذي أراه فيك يا مريم؟ جلبتِ لي العار بدل الكرامة، والحزن بدل الابتهاج، والتوبيخ بدل التباهي. لم أَعُد أتحمَّل عار الرجال لأنّي استلمتكِ بلا لومٍ من كاهن هيكل الربّ، وما هذا الذي أراه؟
- عندما جُرِحَ يوسف، أيّتها العذراء، حزنًا أثناء ذهابكِ إلى بيت لحم، صرختِ إليه: لماذا أنت حزينٌ ومرتبكٌ، غير مدركٍ أنّ كلّ ما حدث لي هو جزءٌ من السرّ المخيف؟ ولكن، ضَعِ الآن كلّ مخاوفكَ جانبًا، عالمًا بأروع الأحداث، لأنّه في رحمته نزل الله على الأرض وهو الآن في بطني، يأخذ جسدًا. عندما تراه مولودًا كما يشاء، ستمتلئ من الفرح وتعبده كخالقك.
- يمكن للمرء أن يشير إلى نصوصٍ مثل «الاختراع الشعريّ» أو «الخطاب الكنسيّ»، أو قد يرى فيها شيئًا أكثر – فهمًا مدركًا لمشاعرَ وتجاربَ أولئك الذين تشكِّل حياتهم التاريخ المقدّس. استفاد كُتَّاب الترانيم البيزنطيّون من مجموعةٍ غنيّةٍ جدًّا من التقنيات الأدبيّة لأنّهم تحدّثوا عن «ما لم تره عينٌ ولا سمعت به أذنٌ ولا خطر على قلب بشر» (كورنثس الأولى ٩:٢) عن الأسرار التي تتجاوز حدود العقل البشريّ، والتي يدركها الإيمان فقط. هناك العديد من الحقائق السريّة في المسيحيّة التي يصعب تفسيرها بالنثر، ويخدمها الشعر بشكلٍ أفضل لمساعدة المؤمنين على الفهم.
- يمكن العثور على مثالٍ آخر في النصوص الليترجيّة التي تصف نزول المسيح إلى الجحيم. لا تقول الأناجيل شيئًا مباشرًا عن هذا الحدث؛ إنّه مذكورٌ بإيجازٍ فقط في رسالة بطرس الأولى (١٨:٣-٢١؛ ٦:٤). في الكنيسة القديمة، كان الإيمان بانحدار المسيح إلى الجحيم قويًّا جدًّا بحيث انعكس، على سبيل المثال، في العديد من الكتابات الأبوكريفيّة، مثل «الإنجيل بحسب بارثلماوس» و«الإنجيل بحسب نيقوديموس». من المصادر الأدبيّة المسيحيّة المبكرة، دخلت الإشارات إلى «النزول» فيما بعد في أناشيد القدّيسَين أفرام السريانيّ ورومانوس الملحِّن، ومن هناك في كتب الخدمة للكنيسة البيزنطيّة. العديد من النصوص في كتب الأكتوئيخوس والتريوذيون والبندكستاريون مكرَّسةٌ لهذا الموضوع.
- إنّ النصوص الليترجيّة ليوم السبت العظيم مميّزةٌ بشكلٍ خاص في هذا الصدد لقدرتها على إدراك الأهميّة اللاهوتيّة للأحداث. النقطة المحوريّة في يوم السبت العظيم هي قراءة آياتٍ من المزمور ١١٨ مع إضافة «تقريظةٍ» لكلّ آية (كتبها مؤلِّفٌ مجهولٌ قبل نهاية القرن الرابع عشر). تحتوي «التقاريظ» على عدّة مواضيعَ رئيسيّة، من بينها آلام ابن الله وموته (يشار إليها مرارًا على أنّها «طوعيّة») لتحقيق مشيئة الآب الذي أرسله لخلاص العالم. إنّها تتحدّث أيضًا بشكلٍ خاص عن والدة الإله، التي وقفت بجانب صليب المسيح وبَكَتْه. بعض التقاريظ موجَّهةٌ لوالدة الإله ويوسف الرامي، والبعض الآخر مكتوبٌ باسم والدة الإله وموجَّهٌ إلى يسوع. في بعض النصوص، يخاطب المؤلِّف يهوذا ويتّهمه بالخيانة، بينما يسخر في نصوصٍ أخرى من اليهود الذين لم يقبلوا مسيحهم بل أسلموه إلى موتٍ مُخْزٍ.
- ومع ذلك، فإنّ الموضوع الرئيسيّ للتقاريظ يدور حول الفداء والخلاص للبشريّة من المسيح، الذي نزل إلى الجحيم. بعد أن بحث الله عن آدم الساقط على الأرض ولم يجده هناك، نزل إلى أعماق الجحيم ليفتديه. كما هو الحال في العديد من ترانيم الأكتوئيخوس، هنا أيضًا يتمّ التأكيد على الطابع الشموليّ لفداء المسيح. تُنشد هذه التقاريظ إحياء المسيح للموتى، وهو حدثٌ يوصَف بأنّه «مروِّعٌ» للجحيم:
كيف مُتَّ يا حياة وسكنتَ قبرًا
غير أنّك حلَلْتَ سلطان الموت وأنهضتَ المائتين في الجحيم
كيف طاقت الجحيم حضورك يا مخلّص
فلا تنسحق فورًا مظلمةً ولا تعمى من ضياء نورك
قد أتيتَ العالم لتُنجِّيَ آدم
فهناك لم تجده يا سيّدي فانحدرتَ للجحيم تطلبه